آدم وحواءتحقيقات صحفيهمقالات القراء

محمد عبدالله يكتب اجرأ تحقيق لعام 2014الثورةوالدعارة

154055فنانون بوهيميون وفتيات عاهرات.. كاتب يبيع فكره وفتاة هان عليها جسدها فباعته على قارعة الطريق.. ارتبط كل منهما بالأخر وشكلوا أزواجاً أثارت رعب المجتمع البرجوازي في فرنسا القرن التاسع عشر. كيف عاش هؤلاء وفي أي من صفحات الأدب والتاريخ سكنوا؟ هذا ما تكشفه لنا “لور كاتسارو” من خلال صفحات “عاهرات وعزاب”، الكتاب الذى ترجمه إلى العربية الكاتب والمترجم محمد السباعى، الذى يغوص في حياة أدباء وشعراء سطروا أسمائهم بأحرف من نور، مثل “بلزاك” و”بودلير” و”فلوبير” و”سارتر” و”ستندال”.

كتاب يكشف العالم السرى للعاهرات

فى القرن الـ19 بفرنسا

سر التشابه بين المجتمع الفرنسى

بعد الثورة وما تعيشه مصر الآن

كيف تصبح الدعارة عملاً مقدساً فى

أثناء الثورات بدلاً من أن تكون خزياً

وعاراً

 

وإذا غصنا بين دفتى الكتاب سنجد أنه لا يوجد في العزوبية ما يستحق أن يُروى، فالأمر كله لا يعدو كونه التحرر من أي إلتزامات باستثناء الالتزام تجاه النفس، ومعرفة خبايا الوحدة التي تعيشها الكائنات وبالتالي إدراك عبثية الوجود.

يقول أحد العزاب عن تجربته: (أعيش في وحدة قاتلة لدرجة أنني فكرت في الانتحار أكثر من مرة، ولكن ما منعني عن هذه الفكرة، هو أن لا أحد، وأقصد المعنى الحرفي بكلمة لا أحد، سيتأثر بوفاتي، ما يعني أنني سأكون بموتي وحيداً بأكثر مما كنت حياً).

العزوبية تجسد موقفاً فلسفياً ضد التقاليد الإنسانية وفي الوقت نفسه ثورة اجتماعية على الطبقة البرجوازية، فالعازب هو ذلك المتمرد اللاجتماعي، رجل لا يعترف بوجوده أحد وتتنزل عليه لعنات المجتمع آناء الليل وأطراف النهار.

الأعزب، الذي جعل من نفسه منبوذاً بمحض إرادته، يرى أن الحياة برمتها شيئاً لا لزوم له، والسلاح الحاد المصوب ضده يعيد توجيهه في الاتجاه المعاكس، حيث يدين الحياة عديمة القيمة للبرجوازي المتزوج العامل رب الأسرة، إذ أنه بحجة التجهيز للمستقبل يُحكم على البرجوازي بالعيش في حاضر كئيب مثله تماماً، فالبرجوازي تسير حياته تحت شعار المفيد وليس الجميل، وبالتالي هو لا يبدع شيئاً ولا يخترع شيئاً ولا ينتج شيئاً، وبالنسبة للعازب فإن النسل لا يضمن إلا شيئاً واحداً وهو أن المستقبل سيكون تكراراً للحاضر بنفس ما فيه من غثيان، فتبذير البرجوازيين كان بالفعل يثير (الغثيان) من وجهة نظر العازب، الحياة نفسهاً فائضاً وتبذيراً وبذخاً لا لزوم له، والعقم هو السبيل الوحيد للسيطرة على كل ذلك..

في رواية (العد التنازلي) لـ(أويوسمانس) تصرخ الشخصية الرئيسة: (ما هذا الجنون المتمثل في إنجاب صغار.. أه!! إن لم يكن باسم الشفقة يجب القضاء على الخلق الآن فمتى سنفعل؟!).

الفنان الأعزب الذي تسكنه مثالية العقم، يعبر عن (اعتراض العقل على الرحم)، كما كتب (فلوبير) لصديقه (إيرنست فايدو) عام 1859، وفي نفس الخطاب هاجم بشدة الأم التي كان عصره يعتبرها مثالية، مضيفاً: (عبادة الأم من الأشياء التي ستجعل الأجيال المستقبلية تنفجر ضحكاً من تلك الحماقة).

في المقابل نجد المتزوجين من الوجهاء وعلية القوم، تجار ومهندسين وضباط و نواب برلمانيين، حققوا نجاحاً كبيراً في مهنهم ونقلوا ثمرة هذا النجاج إلى أولادهم.. جميعهم متزوجون ولهم ذرية (امتلكوا الحق في كل شئ: في الحياة والعمل والقيادة الرفاهية والاحترام، بل وفي الخلود).

الأب إذاً موعود بالخلود بما أنه أنشأ أسرة ولأنه استطاع أن ينقل لأولاده حياة غنية بالشرف والحكمة والمال، ذلك الخلود يضمنه له الشهود، وذلك على العكس تماماً من العازب حينما يموت بلا شهود، فالخادمة المنشغلة بسرقة سيدها الأعزب ليس لها أي مصلحة في تخليد ذكراه أو في الاحتفال بلحظة موته، بخلاف موت رب الأسرة الذي يبكيه أولاده ومن قبلهم زوجته، فحينما ينظر الأطفال إلى والدهم المحتضر، فإنهم يشاهدون ماضيهم الذي هو على وشك الانتهاء، فيما الأب يرى في أعينهم مستقبله الذي هو على وشك البدء.. المستقبل يلتفت إلى الماضي والماضي يتطلع للمستقبل، وحضور الأولاد (الذكور تحديداً) يضمن له أن اسمه سيظل وأن نسله لن ينقطع.

على النقيض فإن موت العازب لا يثير أدنى شفقة، لا بين أقربائه ولا بين أصدقائه المحيطين الذين يتجاهلونه تماماً، الرسالة هنا في غاية الوضوح: عدم الفائدة الاجتماعية للعازب حكمت عليه بهذا العقاب، وبما أنه لم يُعط للمجتمع شيئاً في حياته، فعليه ألا ينتظر أي مقابل لحظة مماته، فالعازب يُعاقب على أنه لم يعش سوى لنفسه فقط بموت بشع مُذل، وعلى العكس من الوجهاء فإنه يموت بلا أطفال وبلا وصية وبلا أسرار يخبرها لأحد قبيل مماته.

أما العاهرة فهي تلك الأفعى السامة القاتلة التي تدمر مستقبل أسرة وأطفال وأمة بأكملها، وثمة قاسم مشترك بين العاهرات والمجرمين إذ أنهم قرروا ألا يكونوا أشخاصاً منتجين وبالتالي هم ضد المجتمع، فالدعارة بالنسبة لها تشكل نوعاً من الجريمة وإن كانت بلا عنف، ولكن أثارها مدمرة، ويرى بعض أساتذة علم الاجتماع، في فرنسا القرن التاسع عشر، أن العجزة والمجانين والمجرمين والمنحلين من كل الفئات، يجب اعتبارهم جميعاً نفايات فشلت في التكيف مع الحضارة، وأنهم لا يستحقون الغضب ولا يستحقون الكراهية، ولكن على المجتمع، إذا أراد ألا يشهد انحطاطه بنفسه، أن يحصن نفسه منهم جميعاً ولا يستثني منهم أحداً، فالرجل الذي ينتقل إليه مرض جراء معاشرة العاهرات ثم يصيب به زوجته وذريته يخلق بذلك علاقة لا تُطاق بين فتيات الشوارع ونسله النقي، فالزهري الذي تحمله فتاة الهوى يهدد بنشر عفنها في كل مكان، لدرجة تدفع المجتمع للاعتقاد أنه بالكامل مهدد بالـ(الزهرنة).

خطورة العاهرة على المجتمع تتلخص في المشهد الأخير من رواية (نانا) لـ(إيميل زولا)، فمن غرفة الفندق التي ماتت فيها العاهرة (نانا) يمكن أن نسمع بوضوح جمع من الغوغاء يصرخون وهم يلوحون بالمشاعل: (إلى برلين .. إلى برلين!)، كانت فرنسا تستعد للدخول في حرب كارثية، ضد ألمانيا (حرب دارت رحاها في الفترة من 19يوليو 1870 وحتى 10 مايو 1871)، حرب كبدتها هزيمة منكرة وخسارة خيرة شبابها واحتلال أجزاء كبيرة من أراضيها، واندلعت على إثرها حروب أهلية في الأقاليم.. لقد غرقت فرنسا في الفساد حتى أذنيها.. أفسدتها فتاة عاهرة بجسدها البشع.. تحمل (نانا) في داخلها الموت الذي قضى عليها، إنها في حد ذاتها مرض.. مرض نقلته إلى المجتمع لأنها ضاجعت الجيف والحيوانات وربما الرجال الهائمين على وجوههم في الطرقات، والذين يغمض المجتمع عينيه عنهم عمداً.

تعدد نمط العاهرات، فمنهن من كانت ضعيفة بائسة مغلوبة على أمرها ومنهن من كانت ذات صفات ذكورية، تحتقر الرجال ولها فتاة المتعة الخاصة بها، وهنا فإن العاهرة نفسها تلعب دور الزبون العازب الذي يدفع للنساء، دور يكشف عما كانت عليه طوال حياتها، علماً بأن شرطة الآداب كانت تقوم بتوقيف عاهرات متمردات بسبب سلوكياتهم الذكورية، فأحد الضباط يذكر على سبيل المثال (سوزان لاجييه) ممثلة ومغنية شهيرة ضاجعت (فلوبير) والأخوان (جونكور).

تلك الممثلة التي كانت تدفع الأموال لفتيات الهوى كي تمارس معهن السحاق، لم تكن تجعل من ميولها الجنسية المزدوجة سراً، فحينما سألها الأخوان (جونكور) عن ذلك أجابت (إن في السحاق حرية تتشابه لحد ما مع تلك الحرية التي ينعم بها الرجال فيما بينهم، كحرية الضراط على سبيل المثال).

العزاب والعاهرات من جهة، والمجتمع البرجوازي من جهة أخرى اختلفوا في النظر للثورات التي شهدها المجتمع الفرنسي، ففي أعين مقدسي الثورة، لا شئ يبدو مدنسا وبلا معنى أكثر من العالم المعاصر، وفي الثورة فقط، بدلاً من أن تكون الدعارة خزي وعار تصبح عملاً مقدساً.. في الثورة فقط، بدلاً من أن يكون العازب مصدر للانحراف والشذوذ الأخلاقي، يصبح مؤسساً لعالم جديد يلغي الأنساب والتقاليد والمواريث.. في الثورة فقط يوجد عالم الحلم حيث يستطيع المرء أن يعيش مئات المرات في حياة واحدة، فيظهر فجأة العالم الوحيد الممكن.

اقتحام قصر (تويليري)، أحد القصور الملكية الفرنسية، في ثورة 1848 (هي الثورة الثانية التي تشهدها فرنسا في القرن التاسع عشر، عقب ثورة يوليو 1830، واندلعت في باريس في الفترة من 22إلى 25 فبراير)، كان مصحوباً بثورة هائلة، وهنا يقول المترجم (إن ما كتبه (بودلير) عن ذلك ذكرني بما شاهدته في أثناء اقتحام المتحف المصري ومبنى الحزب الوطني، والمولات والمحلات الكبرى يوم جمعة الغضب في الثامن والعشرين من يناير2011) حيث كتب (بودلير): (شخص بروليتاري ذو لحية سوداء ويرتدي قميصاً مفتوحاً، كان يبدو على وجهه الفرح والغباء والانحطاط) صعد واعتلى كرسي العرش، ولم يكن المشاركون الأخرون بعيدين عن هذا المشهد (فبشكل ساخر ارتدى الرعاع الدانتيلا والحرير الهندي، بينما شوهدت كرات صغيرة من الذهب تجري بين أكمام بلوزات الفتيات، وارتدى حدادون قبعات من ريش نعام، بينما استخدمت عاهرات أوسمة الشرف في صنع أحزمة على مقاسهن).. (فلوبير) يرمز إلى الشعب الذي كان ينهب قصر (تويليري) بعاهرة ترتدي شارة الحرية!

ثورة القرن التاسع عشر ليست أماً ولا زوجة، بل هي فتاة، وإذا كانت العاهرة تعتبر أحد أقوى رموز العنف الثوري في القرن التاسع عشر، فذلك لأن تلك المرأة – الطفلة – لديها من القوة ما يجعلها تحول الذكور من حولها إلى أطفال مثلها، إذ يبدأ الأطفال في اللعب حيثما تتوقف القوانين، فمنطق الثورات هو تعليق القوانين أو إعلان وفاتها.

إيقاف العمل بالقوانين كان أيضاً شامل إيقاف العمل بقوانين الهوية، كل شخص يمكن أن يبدو شخص آخر.. كل شخص يمكن أن يتحول لآخر، والغاية من ذلك العيد الثوري ليس السرقة وليس كذلك الإصلاح السياسي، وإنما الاستمتاع بإيقاف العمل بالقوانين، لذا فمن وجهة نظر محافظة فإن الثورة ليست سوى زيارة دائمة لبيت دعارة، فالثورة تحول عمر (البلوغ) إلى حالة من (الطفولة) التي لا تنتهي، وكانت فانتازيا العاهرات مهيمنة وساهم في ذلك فئات من الثوار الخليعين الذين يحتقرون القوانين والحياة الأسرية.

فتاة الهوى تنتمي للشعب بأكمله، إنها الطفل الذي يملك كل فرد الحق في اللعب معه، إنها (فتاة لكل الناس) بحسب توصيف كان يحقر من شأنها في القرن التاسع عشر، فهي على العكس من المرأة المتزوجة، أو المرأة (الراشدة)، فهي لا تملك ذرية ولا أموال أوممتلكات يمكن أن تورثها ولن تنقل أي تراث.. إنها ليست زوجة أو ابنة أحد، باستثناء الشعب الذي ربما يمثل لها أسرتها الوحيدة.

كل أيقونات البغاء في القرن التاسع عشر، كانت عبارة عن نساء نصف عرايا يكشفن، جزئياً أو كلياً، صدورهن وسيقانهن، وإذا كانت ملامح وجسد الحرية مستعارين من التماثيل الكلاسيكية، فإن ملابسها تضعها في جانب (فتيات الشعب).

في هذا العالم (الثوري) المقلوب رأساً على عقب، لم يكن هناك دعارة منغلقة لأن الشوارع ممتلئة بالعاهرات، بينما المواطنون المحترمون للقانون قابعون في منازلهم.

الزواج الذي يقسم الوقت إلى (قبل) و(بعد) هو بلا الشك الحدث الأهم في الحياة الخاصة، فالزواج يمنح الاستقرار ويسمح ببناء اسم ويُكسب صاحبه االاحترام، حيث أن البقاء كشاب عجوز أو كفتاة عانس خارج نطاق الأوامر الدينية، فهذا يعني أن المرء بنفسه يدين نفسه.

لأنهم لم يخلقوا حياة جديدة للأمة التي منحتهم الحياة، فإن العاهرات والعزاب محكوم عليهم بموت يراه معاصروهم عقاباً أقل مما يستحقون حتى وإن كان احتضاراً مثل الحيوانات أو تعفناً مثل النباتات، وموتهم لا يؤدي إلا لتوازن (طبيعي) بإزاحتهم كطفيليات في الحياة.

الكتاب، الذي يضعنا أمام مجتمع فرنسي في القرن التاسع عشر يتشابه مع مجتمع مصري نعيشه حالياً، يتركنا في النهاية حائرين بين أمرين أحلاهما مُر، فإما حياة برجوازية مملة سخيفة عبثية، أو حياة يُنبذ صاحبها ويموت في مجتمعه وحيداً غريباً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: