آدم وحواء

ذوو الاحتياجات الخاصة.. صوت «برة الصندوق»

233863_Large_20140522074000_1116مليون معاق فى مصر ما زالوا يتشبثون بممارسة الديمقراطية، غير عابئين بالمشقات التى تنتظرهم على أبواب لجان الاقتراع، فكل همهم هو تفعيل حقهم الانتخابى الذى طالما ذهب سُدى وسط إصرار المسئولين على غض الطرف عن مناشداتهم بتوفير مراكز اقتراع مُعدة سلفاً لاستقبالهم، ولجان قريبة من محل إقامتهم، فبعضهم لا يجيد الحركة دون كراسى متحركة، والآخر يتحسس موضع قدميه لحساب كم قطع من الكيلومترات، ويبقى سبيلهم الوحيد للوصول إلى الصندوق الانتخابى مفروشاً بالأشواك، ومحفوفاً بالعراقيل اللوجستية، فما إن يحسم ذوو الاحتياجات الخاصة قرارهم بالمشاركة، أملاً فى طى صفحة الماضى المليئة بتجارب مريرة من الإهمال وإهدار الحقوق، حتى تأتيهم معوقات التجنى على صوتهم الانتخابى الذى يكفله قانون مباشرة الحقوق السياسية.

لحظة حاسمة فى حياة «إيمان مراد» قررت خلالها التمسك بحقها الانتخابى مهما كلفها الأمر، فعلى أعتاب لجنتها الانتخابية، تناست العجلات الأربع، التى لا تقوى على التحرك دونها، ولم تلق بالاً للتجارب القاسية التى مرت بها فى كل مرة تحاول الإدلاء بصوتها، بينما تذكرت شيئاً واحداً أنها مواطنة مصرية لها كافة الحقوق، وعليها كل الواجبات، فتوجهت للاقتراع، مصحوبة بآمال عريضة، وهنا بدأت رحلة المعاناة المعتادة بدءاً من صعوبة صعود السلم حتى السماح لها بالاقتراع فى سرية تامة دون الحجر على رأيها، لخصت رحلتها فى كلمات «كنت فى منتهى السعادة أول ما بدأت أمارس حقى فى التصويت فى استفتاء 19 مارس، من وقتها اكتشفت أن المعاق حقه مهدر فى البلد، لجنتى كانت فى الدور الخامس، وطلبت من القاضى ينزل الصندوق علشان أدلى بصوتى، لكنه رفض، وصممت وقتها أن الأمن يشيلنى ويطلعنى لمكان لجنتى، علشان ما يضيعش صوتى».

إيمان مراد

زادت معاناة الفتاة الثلاثينية فى الانتخابات الرئاسية، بعد أن تضاعفت الهوة بينها وبين الصندوق الانتخابى، بسبب تغيير محل إقامتها من منطقة المعصرة إلى مركز العياط بالجيزة، وصار الطريق أطول من سابقه، حيث الوصول إلى لجنتها فى محافظة حلوان، يحتاج منها استقلال ثلاث مواصلات عامة، فى ظل غياب لجان مغتربين بالقرب منها، ومع ذلك لم تستسلم «إيمان» من أجل تفعيل حقها فى المشاركة، محاولة التواصل مع المجلس القومى للإعاقة الذى وعدها بتوفير الحلول، «طلبت من المجلس تزويد المراكز الانتخابية بمكان للمعاقين المغتربين، لأنى وسط ظروفى الحركية دى، أكيد مش هقدر أروح أنتخب فى مكان بعيد كمان، وبقالى كتير مستنية الأمور تتحسن، ومفيش فايدة».

الظلام الذى عاشه محمد صالح منذ صغره، لم يولد به، فهو ناتج عن إهمال طبى فى علاج مرض السكر بمستشفى أبوحماد العام، حيث قدر له أن يصوت مرة واحدة فقط قبل أن يفقد بصره، لكن عن طريق القاضى بحجة أنه لا يجيد القراءة والكتابة، والتعرف على بطاقة إبداء الرأى، وباتت المشكلة أكبر بعد أن أصبح كفيفاً، لأن عليه أن يصطحب مرافقاً، ليصعد به السلم حتى مكان لجنته، ويصوت بالنيابة عنه، «قبل دخول اللجنة بطلع سلالم كتير جداً، بس مش هى دى المشكلة، لأن القاضى بيرفض دخول والدى أو أخويا معايا اللجنة، لأنى مش بعرف أقرا أو أكتب، ولما بستأذنهم يعلموا قدام الرمز الانتخابى مكانى، بيطلبوا منى يعرفوا عايز أصوت لمين وهما يصوتوا لى، ولما برفض بيبطلوا صوتى». موقف شديد الصعوبة، تعرض له «محمد» فى انتخابات الرئاسة الماضية، حيث أخبره والده الذى كان واقفاً على باب اللجنة الذى يصوت فيها، أن القاضى استبدل ورقة تصويته بأخرى غير التى أدلى فيها بصوته، الأمر الذى لم يتحمله «محمد»، مقرراً العودة إلى القاضى ليعاتبه، فيأتى الرد «صوتك مش هيفرق كتير»، الجواب الذى أثار حفيظة الشاب العشرينى، مقرراً التمسك بحقه فى وجود مرافق معه مهما كلفه الأمر، «يمكن الكفيف المتعلم تبقى مشكلته أبسط شوية، لكن استغلال صوتى الانتخابى لأنى كفيف ومش بعرف أقرا ولا أكتب، بحرمانى من التصويت، ده قرار ظالم».

صالح

يتمتم بكلمات غير مفهومة، يكاد يسمع بصعوبة، لكن لديه إرادة حقيقية فى تفعيل حقه الانتخابى، بعد حرمانه من هذا الحق طيلة سنوات عمره الأربعين الماضية، عطية عويس يثق أن الدستور يكفل له الحق فى الإدلاء بصوته، لكن الواقع يهدر هذا الحق، فاللجنة التى يصوت بها، غير مزودة بأى وسائل تساعده على التصويت بشكل سليم، وأهمها وجود مترجم للغة الإشارة لذوى الإعاقة من الصم والبكم، أو لوحات إرشادية، الأمر الذى يصعب من مهمة القضاة والموظفين فى التواصل معه، والتعرف على رأيه التصويتى، على حد قول شقيقه «عادل»، «الدولة مش موفرة مترجمين للغة الإشارة داخل كل لجنة، طيب المعاق من الصم والبكم ده مش مواطن، بيقف فى طابور طويل مستنى دوره قدام لجنة الانتخاب، وعنده رغبة حقيقية فى اختيار مرشح، يحقق له طلباته فى المستقبل، ومع ذلك دايماً محروم من رعاية بسيطة واحترام حقوقه داخل دولته، لكن المواطن المعاق فى الدول الأجنبية، بيتوفر له كل سبل الراحة، لأنه تحدى ظروفه وحضر لممارسة حقه الانتخابى».

رسالة ألم من أبناء الوطن إلى «العليا للانتخابات»: لنا تجارب «مريرة» مع الإهمال.. «لو سمحتم.. عايزين نمارس حقنا»

«رئيس اللجنة بيتعامل معانا كأننا مش بنى آدمين».. قالها والد «محمود عبدالمنعم» المعاق ذهنياً، قبل أن يصف حالة الغضب والثورة التى بدت على القاضى حين حاول التصويت نيابة عن نجله فى انتخابات البرلمان 2012، رافضاً السماح له بمرافقته، طالباً منه الانتظار خارج اللجنة، لحين الانتهاء من التصويت، قائلاً فى حنق شديد: «إنت إيه اللى جابك أصلاً، إنت عديم الأهلية»، الكلمات التى دخل بعدها ابنه فى نوبة بكاء، أصابته بحاجز نفسى من المشاركة فى الانتخابات، ويكمل «ابنى بيفهم كويس جداً، بس عمره العقلى أقل شوية من سنه، وده مش معناه أن القاضى يهينه، ويعتبره عديم الأهلية، ويبطل صوته الانتخابى، كأنه مش صاحب حق».

طابور طويل، حجز فيه «أشرف كرار» موقعاً تحت حرارة الشمس الحارقة، منتظراً دوره أمام لجنته الانتخابية، يتصبب العرق من كل وجهه، لكن الشاب العشرينى لا يملك أطرافاً يجفف بها عرقه، بعد أن فقد ذراعيه فى حادث قطار قبل خمسة أعوام، ورغم ذلك لا يقبل التفريط فى صوته، الأمر الذى واجهه بشجاعة فى الاستفتاء على الدستور، لكن فى المقابل، كانت التجربة قاسية، حسب وصفه، «دخلت اللجنة بعد ساعتين من وقوفى على الباب، بدور على اسمى، لقيت القاضى علم مكانى، ومضى عند اسمى، ولما سألته، رد علىّ أن ظروفى مش هتسمح بالتصويت، علشان كده قرر من نفسه يوفر وقت للناخبين اللى بعدى فى الطابور، ويصوت مكانى من غير ما يعرف رأيى».

اللجان بعيدة جداً وغير مجهزة لاستقبالنا.. و«محمد»: حُرمت من الإدلاء بصوتى بسبب إصرارى على وجود مرافق

الصوت الانتخابى الذى سلبه رئيس اللجنة من «أشرف» أمام عينيه، دفعه إلى اتخاذ القرار بعدم المشاركة فى أى استحقاق مقبل، حتى تتحسن معاملة الدولة مع المعاقين حركياً، «مش هاقدر أنزل من بيتى وأروح اللجنة اللى بتبعد عنى حوالى 20 كيلو، وفى الآخر أشوف صوتى بيروح قدام عينى، وأنا مش عارف أدافع عن حقى، يبقى المقاطعة هى الحل الوحيد». نجلاء طلعت مترجمة الإشارة بالجمعية المصرية لرعاية الصم وضعاف السمع، تحرص كل استحقاق على التطوع لمساعدة المعاقين فى الإدلاء بأصواتهم داخل المجمع الانتخابى بمنطقة مصر الجديدة، لا يقل حجم المعوقات التى تتعرض لها عن المعاقين ذاتهم، بداية من عدم السماح بدخولها اللجان، وصولاً إلى عدم إتاحة الفرصة للتواصل مع الناخبين من ذوى المشكلات السمعية أو الكلامية، وهو ما واجهته بشكل مبالغ فيه، إبان يومى الاستفتاء على الدستور الأخير، حيث حرمها رؤساء اللجان من مرافقة المعاقين بحجة عدم تقديمها تصريحاً من اللجنة العليا للانتخابات، «المفروض يكون فيه مترجم فى كل لجان الانتخابات، أو استبداله بصور وإشارات وأسهم ورقم التسلسل، تساعد المعاق على التصويت، خاصة أن ذوى الإعاقة من الصم يزيد عددهم على 2 مليون صوت انتخابى، معظمهم مقبل من محافظات بعيدة، ومع ذلك الدولة تحرمهم من وصول صوتهم بشكل سليم».

مشكلة المعاقين فى مصر ليست قاصرة على كتلتهم التصويتية الممثلة فى الـ10% من إجمالى من لهم حق التصويت، فأسرهم وذووهم يتحدون الإعاقة معهم لتفعيل حقهم الانتخابى، لذا قد تخسر الدولة فى سبيل تحقيق الديمقراطية المنشودة أصوات 20 بالمائة من الناخبين، حسب «مازن حمزة» مسئول ملف ذوى الإعاقة فى مبادرة «حلم»، «بقالنا سنين بنطالب الدولة بتوفير سبل الراحة للمعاقين فى الانتخابات، وضمان وجود استمارة تصويت بطريقة برايل للمكفوفين أو السماح بوجود مرافق معهم، مع تخصيص لجان فى الطوابق السفلية داخل كل مجمع انتخابى لمتحدى الإعاقة الحركية، ومترجمين للغة الإشارة للصم والبكم، وكلها أمور بسيطة بيعقدها فقط الروتين المعهود فى مصر». ثمة حواجز كبيرة بين ذوى الإعاقة وصندوق الاقتراع كناخبين، لكن اللجنة العليا للانتخابات أتاحت لهم فرصة المراقبة ورصد التجاوزات والانتهاكات ومساعدة زملائهم، حسب سامى أحمد مسئول الاتصال السياسى بالمجلس القومى للإعاقة، مؤكداً أنه للمرة الأولى يسمح لممثلى الجمعيات المعتمدة فى مجال تأهيل المعاقين، بالمشاركة فى لجان الانتخابات بحوالى 600 لجنة على مستوى الجمهورية، «رصدنا معظم الحالات الفترة الماضية، تم تخصيص مظروف ببطاقات إبداء رأى ذات طباعة بارزة للمكفوفين لتسهيل عملية التصويت، أما المعاق الحركى سينزل له القاضى لتسهيل عملية الانتخاب».

«أشرف»: القاضى صوّت بدلاً منى لأنى دون يدين.. و«محمود»: رئيس اللجنة قال لى «انت عديم الأهلية» وأبطل صوتى

500 ألف شخص هم إجمالى المعاقين المقيدين بالجداول الانتخابية، حسب المستشار عبدالعزيز سالمان، الأمين العام للجنة العليا لانتخابات الرئاسة، يكفل لهم القانون الحق فى الانتخاب مع مراعاة ظروفهم الصحية والنفسية، «بنحاول مواجهة المشكلات التى تؤرق المعاقين فى عملية التصويت بسلسلة من الإجراءات، على رأسها توزيعهم على لجان قريبة من محل سكنهم، معظمها فى الطابق الأرضى، والسنة دى بس مش هنقدر نخصص لجان للمعاقين، لكن كل الظروف مهيأة لهم للاقتراع السرى المباشر مثل أى ناخب، وبنحرص على استقبال شكاواهم من خلال أرقام خصصناها للتواصل معهم، أو عن طريق إبلاغ المراقبين داخل اللجان».

ووفقاً للأمين العام للجنة العليا للانتخابات، فمن غير المقبول وجود مرافق مع الكفيف، أو مترجم إشارة مع الأشخاص الصم أو ضعاف السمع، إلا إذا سمح رئيس اللجنة الفرعية بذلك، بشرط أن يكون الاقتراع تحت إشراف رئيس اللجنة العامة، بعدها يوقع الناخب بجوار اسمه، أو يترك بصمته، وفى كل الأحوال، يجب إثبات ذلك فى محضر اللجنة، مذيلاً باسم أمين اللجنة والناخب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: