آدم وحواءتحقيقات صحفيه

تحقيق سيد عبداللطيف بالصور.. إضاءات على نساء نجيب محفوظ

180217

لم يكن نجيب محفوظ مهتما بنحت الشخصية الفنية، بقدر التركيز على خلق نماذج بشرية كاملة، من هذا المبدأ تحديدا دخلت نماذج محفوظ إلى الميثولوجيا الشعبية المصرية كنماذج بشرية وكعبارات تكاد تصل إلى مرتبة المثل الشعبى، فـ “سى السيد” النموذج البشرى تحول إلى مفهوم يحمل دلالات اجتماعية وشعبية وثقافية، بالضبط مثل محجوب عبد الدايم الشهير، وفرج إبراهيم الأقل شهرة والأكثر جرأة ووقاحة ووضوحا.

غير أن النماذج البشرية النسائية لدى محفوظ، تحتاج لا إلى سينما بقدر احتياجها إلى المسرح، أى أن نساء محفوظ يمكن أن يجتمعن فى نص درامى يتم طرحه على خشبات المسارح لتتحاور، على سبيل المثال، إحسان “القاهرة الجديدة” مع حميدة “زقاق المدق” اللتين تنتميان إلى شريحتين مختلفتين من طبقة اجتماعية واحدة تقريبا، تسكن إحسان فى إحدى شرائحها الوسطى أو ما تحتها قليلا، بينما سكنت حميدة فى قاعها الضيق المظلم – الخانق.

لقد ظلت إحسان تلميذة المدرسة، التى لم تكن تعرف أبدا معنى التمرد إلا ما لم تفهمه من الكتب النظرية التى حاول على طه دسها فى رأسها، تثير الهواجس الاجتماعية والتساؤلات النفسية، لدى النقاد والقراء والمهتمين على حد سواء، ليس فقط عندما بدأ الأب بالضغط عليها لتتزوج “البك الكبير” من أجل انتشال أسرتها من الفقر، بل وأيضا عندما بدأت تستعذب كلمات وملامح البك وتفكر جديا فيه، ثم مقارنتها إياه مع على طه.

لنكتشف أن المقارنة انتهت لصالح البك، والمثير أن مقارنة القواد محجوب عبد الدايم بين البك وعلى طه، انتهت لصالح على وليس لصالح البك، إن كل ذلك لا يمكن أن يلقى بشبهة الانحطاط الأخلاقى عند إحسان باعتبارها “امرأة”، بقدر ما يلقى بحقيقة الفساد الاجتماعى، الأخلاقى عند المجتمع.

وهو ما نرى أصله فى الفساد السياسى، فأين الفساد والانحطاط هنا: فى اختيارات إحسان، أم فى دفع الأسرة لها بالانطواء تحت جناحى رجل غنى وقوى عبر الزواج من قواد له ظروفه الاجتماعية أيضا، أم فى منظر الإخوة الجوعى والعراة؟

أما حميدة، المتمردة التى تحب نفسها كثيرا على قدر وعيها ووعى زقاقها، فكانت أكثر وضوحا ووقاحة وجرأة واتساقا مع نفسها منذ البداية، كانت تدرك أنها وقعت فى مصيدة قواد، وكان زقاق المدق يمثل طريقا فى اتجاه واحد غير قابل للرجعة على الرغم من التواطؤ الذى يمثل أبرز سمات منظومة العلاقات فى الزقاق.

لقد دفعوا إحسان للانسلاخ عن شريحتها الاجتماعية لتعيش ضمن منظومة علاقات قوادة، وقوادة سياسية متعددة الدرجات، وعندما اكتشفت أنها وقعت فى المصيدة، تماهت مع دورها الجديد لتصبح واحدة ضمن مخلوقات طبقتها الجديدة، تمعن فى التواطؤ والتبربر على الرغم من إمكانية الاختيارات، وإمكانية الحركة أو بالأحرى التراجع، بينما حميدة التى انسلخت عن شريحتها كانت تعرف منذ البداية طريقها الواحد والوحيد للخروج من القاع وظلت تراوح بين الاستسلام التام أو نصف التسليم.

لقد حسمت حميدة أمرها وخرجت فى اتجاه واحد، وحتى عندما التقت عباس الحلو مصادفة، لم تضعف أو تستكين أو تفكر فى العودة، إنه الواقع، والشخصية الواقعية التى تتعامل ببرجماتية تامة مع واقع هى مجبرة للحياة فيها، سواء كان “زقاق المدق” أو “الكباريه”، بينما ظلت إحسان مترددة رغم قناع القوة التى كانت ترتديه.

وفى نهاية المطاف لم تكن أمهمها أى فرص للعودة، أو هكذا تصورت هى بعد أن قطعت خطوات مهمة فى الحياة، أو ما تتصوره أنه الحياة.

وعلى الرغم من التفاصيل التى قد تعكس بعض الفوارق الطبقية والنفسية والوجودية بين إحسان وحميدة، إلا أن النموذجين وجهان لكينونة بائسة فى واقع اجتماعى ربما يكون هو المذنب الأول والوحيد فى دفعهما إلى منطقة شائكة من حيث النظرة الأخلاقية السائدة فى نفس ذلك المجتمع المتواطئ الذى يتواطأ أفراده مع بعضهم البعض حينا، وضد بعضهم البعض حينا آخر، وضد نفس القواعد والأطر الأخلاقية التى يحاسبون بعضهم البعض بها حينا ثالث.

من كثرة التشابه المنطقى، فى السرد، بين إحسان وحميدة، يمكن أن نلمح مقاطع كاملة متشابه من حيث طريقة التفكير، ما يعطى انطباعا بأننا أمام نموذج واحد لامرأة تتأرجح بين إحسان وحميدة، تعكس كل النتائج الممكنة لمنظومة علاقات اجتماعية لم تتغير طوال القرن الأخير، أى منذ خلق نجيب محفوظ نموذجى إحسان وحميدة، وبالتالى، ما الفرق بين والد إحسان، وبين والدة – خالة – حميدة؟! لا فرق تقريبا.

غير أن شريحة القاع أكثر وضوحا وجرأة ووقاحة، لأنها ببساطة لا تملك أى شئ يمكن أن تخاف عليه، هنا تظهر قوة حميدة النفسية وصلابة منطقها وجرأتها على المضى قدما إلى الأمام دون أى تردد أمام المقدسات والمعايير الأخلاقية.

ولكن ماذا لو تبادلت كل من إحسان وحميدة مواقعهما الاجتماعية فى تلك الطبقة المنكوبة؟ ماذا لو كانت حميدة هى التى كانت تدرس فى المدرسة وتمتلك نفس قوتها ومنطقها فى زقاق المدق؟ ربما اختلفت المصائر تماما!

هناك بعض الأفكار حول أن الزقاق كان يحمى حميدة، كان يمثل درعا اجتماعيا وجغرافيا لها ولجسدها الذى كانت تعتبره رأسمالها وسلعتها فى آن واحد، إذن، ما الذى كان يحمى إحسان ابنة المدارس التى بدأت تفكر ليس بالضبط فى جسدها، وإنما فى ما يتعلق بهذا الجسد واحتياجاته الخارجية، عندما وضعت قدمها على أول طريق؟ تساؤلات وافتراضات وتباديل وتوافيق يمكن أن تتوالد وتتكاثر حول هذين النموذجين.

ومع ذلك، لا يمكن أن تكره أيا منهما، يمكنك فقط أن تغضب أو تحنق أو تتعاطف أخلاقيا، إن الغضب والحنق يكشفان جانبا آخر من المجتمع المتواطئ باسم المقدس، ذلك المجتمع الذى لا يرى فى المرأة سوى كائن خرافى قد يعجبه ويروق له فى أوقات محددة، وقد يصبح شيطانا وإبليسا وعفريتا فى أحيان أخرى.

أما التعاطف فهو يعكس مدى التواطؤ الاجتماعى بمعناه الأخلاقى، بينما المسألة مختلفة تماما، لأن إحسان وحميدة وجهان لكينونة واحدة تعيش فى منظومة علاقات اجتماعية منحطة، اتفق الجميع ضمنيا على تحييدها، بل تجاهلها تماما، أو فى أحسن الأحوال، تسطيحها فى حال الحديث عنها، لتندرج كل الأسباب والحيثيات والمبررات تحت البند الأخلاقى.

هنا تحديدا نكتشف أن التواطؤ الحقيقى ليس تواطؤ إحسان أو حميدة مع مصيريهما، ولا تواطؤ الأولى مع محجوب، ولا الثانية مع فرج، ولا حتى تواطؤ الأب عند إحسان أو الخالة – الأم عند حميدة، إنه تواطؤ من نوع آخر يشارك فيه الجميع بلا استثناء تحت مظلة الحفاظ على البيت الكبير الذى يضمنا، رغم كل الفساد السياسى، والدعارة السياسية قبل الأخلاقية!

إن الكتابة الكبرى قد تضع صاحبها فى مرمى نيران المجتمع، قبل نيران السلطة، والكتابة الكبرى هنا لا تندرح تحت بند البورنو أو الحديث، كما اصطلحت الثقافات والمعارف العربية، عن المحرمات والتابوهات الثلاثة، إنها أعمق وأشمل وأعم من ذلك.

على الرغم من التعامل الاستثنائى مع الكاتب الروسى فيودور دوستويفسكى، فقد رأينا المجتمع الروسى، قبل النقاد فى روسيا وفى العالم كله، يتعامل بفخر وكبرياء مع الكاتب الكبير باعتباره من كتاب الرواية الكبار، ما حوَّلَه إلى رمز ومثار فخر وافتخار، لكن فى الحقيقة، ومع مرور بعض الوقت وتجاذب أطراف الحديث مع العديد من المسرحيين والروائيين والمهتمين المتخصصين فى عالم دوستويفسكس، اكتشفنا أن الروس فى قرارة أنفسهم لا يحبونه، وأحيانا يوشيحون برؤسهم فى ضيق وغضب عند ذكره أو ذكر أى من النماذج البشرية التى خلقها.

والسبب هو أن دوستويفسكى وضع يده على أعمق المناطق المظلمة فى الروح الروسية، بل والروح الإنسانية عموما.

نجيب محفوظ وضع يده على الكثير من المناطق النفسية والروحية المنحطة فى الإنسان المصرى، والمجتمع المصرى، إن خلق نجيب محفوظ لنموذج “سى السيد”، والنماذج النسائية فى العديد من أعماله، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أنه بعيد تماما عن شبهة عدم احترام المرأة.

محفوظ كان يُشَرِّح المجتمع المصرى، ويسخر من هذا المجتمع، مع كل نموذج للمرأة يقوم بخلقه وطرحه على العالم، لقد نجح محفوظ فى الوصول إلى الكثير من المناطق المظلمة فى أرواحنا، أرواح المجتمع المصرى، والإنسان المصرى، وسخر بجدية من بنية هذا المجتمع المنحط.

ملاحظتان مهمتان، الأولى بشأن علاقة نجيب محفوظ بالمرأة، وأنه كان لا يحترمها ولا يصادقها وكان لديه قناعة واضحة فى كتابته بأن المرأه إما عاهرة أو أم للعيال، وأنه لم يكن لديه تلك المنطقة الوسطى! والثانية، حول التواطؤ بشقيه الأخلاقى والسياسى، وهل المصائر عند نجيب محفوظ، وبالذات مصائر النماذج النسائية، قدر أم اختيار!!

الإجابات كثيرة ومتنوعة ومتعددة فى أعمال نجيب محفوظ: فى الروايات وليس فى الأفلام الرديئة التى تم بناؤها على رواياته، وهذا هو سر منهج الكاتب، وأهمية أن يكون لدى الكاتب منهج للكتابة وعالم متكامل متعدد ومتنوع، وليس مجرد كتابة روايات تضم شخصيات ما رائعة ومثيرة وتحمل الكثير من الدلالات.

لقد تعامل محفوظ مع المرأة ليس باعتبارها كائنا اجتماعيا مظلوما ومقهورا، بل تعامل معها باعتبارها مسؤولة مسؤولية كاملة عن نفسها وحياتها، باعتبارها فردا اجتماعيا يمتلك كل القدرات والإمكانيات التى تؤهله لتحقيق ما يريده، وبالتالى، فالمرأة عند نجيب محفوظ كانت كائنا من لحم ودم وليس كائنا نظريا مجردا فى الأذهان والتصورات والمخيلات، أو مجرد كلمة “امرأة” سقطت من أحد الكتب السميكة التى تتحدث عن ما ينبغى أن يكون فى ظل ظروف مختلفة.

لقد شوهت الأفلام التى تم بناؤها على روايات محفوظ غالبية النماذج التى خلقها، وبالذات نماذج المرأة، فروايات الكاتب وأعماله لا تتحدث إطلاقا عن أخطاء المرأة باعتبارها كائنا نورانيا، أخلاقيا يجب لمسه بهدوء وخوف لكى لا ينكسر ويتحطم، ولا حتى باعتبارها كائنا استثنائيا أفضل أو أسوأ أو لديه عيوب أو زوائد أو نواقص، وإذا كان دوستويفسكى قد غاص فى النفس البشرية وقام بتشريح مناطق الضعف والنقاط المظلمة فيها، فمحفوظ قام بطرح نماذجه البشرية فى علاقتها بالمجتمع الذى تعيش فيه، والمسألة ليست مقارنة بين محفوظ ودوستويفسكس، بقدر ما هى إلقاء المزيد من الإضاءات على أعمال نجيب محفوظ وعمقها، وعمق رؤيتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: