الداعية والخطاب الديني المعاصر
حامد بدر يكتب :
يسعد المجتمع الديني في مصر أن يرى الإنتاج الفكري الذي طرحه مجمع البحوث الإسلامية تحت عنوان “خطاب الاعتدال في مواجهة خطاب التطرف”، والمعروض في جناح الأزهر بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 52، وذلك في إطار توعوي كما عودتنا المشيخة دومًا. الكتاب الذي يتناول بحوثًا ترصد واقع الخطاب الديني المعاصر، وموضوعات أخرى تتصل بأهمية الفكر الدعوى، يعد خطوة علمية مستيرة على مسار الواقع والحياة.
لا ينكر أحدًا دور الداعية المسلم على مرّ العصور، فالحقيقة الثابتة أن أكبر قوة يملكها الإسلام قوة الدعوة إلي الإسلام ذاته والتي تثبت نجاحها، وخاصة لأن الدعوة إلى الله واجب على المسلم حتى في تصرفاته الشخصية؛ لأن هذا هو أساس العقيدة. كما ان صاحب الدعوة صاحب قصية ومبدأ، لذا وجب عليه أن يكون ملتزما بمبادئ الخلق القويم، والتسامح، وقبول الآخر، ونبذ العصبية، حيث أن وظيفته اتصالية من الدرجة الأولى داخل المجتمع، بنص القرءان الكريم “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” النحل (125).
وحين نتحدث عن الداعية لا نتحدث عن شيخ عالم أتمم دراساته الدينية وحصل على العالمية، إنما نقصد الدُّعاة المتطوعين الذين انتشروا داخل المجتمع حتى صاروا لهم جماهير ومتابعين، حيث أن بعضهم أثبت نجاحًا مبهرًا ونال إعجاب الناس في عرض مسائل الدين والدنيا وتبسيط العلوم والمصطلحات وأسهم في البحث الديني، والبعض الآخر حدِّث ولا حرج، ولكن لا مجال الآن للدخول في تفاصيل هذا الشأن.
إن قضية الدعوة لا تتعلق بطرف واحد، فالدعوة لها طرفان، الداعية والجمهور الذي ينصت له، فالداعية ربما صار في مرتبة العالم إذا أحسن استخدام الأدوات التي يمتلكها في توظيف دعوته، والجمهور الذي يستمع وينقل من باب نشر الخير والعلم.
لكنَّ للأسف كثيرًا ما يُحزن أغلب المسلمين المعاصرين أن يسمعوا وعظا لداعية يحمل التقليل من طرف أو مخلوق أو فئة أو جنس، أو تٌبَثّ فيه معلومات تثير حفيظته أو تحرِّض على الآخر،. فها هو مشهد لواعظ يجمع شبابا يلعب بأفكارهم ويشتت انتباهاتهم، بمعلومات لا تجاري العصر الذي يعيشون فيه، فيبث أفكارًا سُرعان ما تتحول إلي خلافات حول مسائل تزيد من أعباء البيت المسلم، والتي كام من الممكن تداركها لو عدنا أمة (اقرأ) بحق. فعلى خلفية بعض الأحاديث التي تنتشر عبر السوشيال ميديا نجد مفاهيم وتصورات ربما تثير السخط لدى النفس التي وصفها الله عز وجل بأنها أمَّارة بالسوء، وذلك لأن الخوض في مثل هذه المفاهيم، ربما تنحو بالمتابع أو المستمع نحو طرق التطرُّف، فينقل الحال إلى ما لم يكن مرادًا على الإطلاق.
الإشكالية الأعظم هي الجمهور الذي ربما يعاني – في ظل عياب لعملية التثقُّف الديني وهو أن يثقف نفسه بنفسه – حين يستمع إلى وعظ يأخذه على سبيل الفتوى البائنة، التى وجب تنفيذها، فيتناقلونها دون وعي أو حتى استبيان صحتها من مصادر أخرى، والتي صارت تساعد على انتشارها مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تنقلب فيها أداة التفاعلية من كونها ميزة إلى آفة تنقل آفة، بل وربما تأججت الصراعات حول الآراء والاتهام في التعليقات؛ لتثير جدليات أخرى ومراءًا ما أنزل الله به من سلطان، والتي ربما تكون من ضمن نتائجه ظاهرة خطيرة هي عزوف المسلم عن دينه.
وهنا يتوجب على الداعية أو من قرر أن يدخل مجال الدعوة أن يتفهم عددًا من الأمور:
أولها: أن الداعية ليس بمحل فتوى، وأن مسؤولياته تتمثل نقل العلم الصحيح من مصادره وشيوخه المعتمدين، دون اجتهاد يؤدي إلى لغط.
ثانيها: أن من المبادئ الأساسية التي يلتزم بها الداعية، أن الدعوة رسالة طاهرة، فلا يلوث هذا الطُّهر بجدليات، بُغية الظهور عبر ما يُسمى الترند أو الوسوم أو الهاشتاج.
ثالثها: الدعوة يلزمها عدم الانقطاع عن الدراسة والبحث حول المستجدات كي يواكب المجتمع الذي يبلغ فيه الرسالة.
رابعها: الداعية مرآه من مرايا الدين، وهو المتواصل مباشرةً مع جماهير الناس، فلينتق الألفاظ وليكن على دراية بموضوع دعوته.
خامسها: الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وعليه فيتجنب الداعية أن يكون جزءًا من عملية السباق الدعائي والبروما جاندا التي قد تخدعه بها (السوشيال ميديا والتواصل الاجتماعي).
سادسها: تجنب الأحكام المطلقة، لأن الفقة الإسلامي واسع، ومن جماله أن تختلفا الفئتان، ومن يثبت صحة كلامه بالديل القرءاني والنبوي ينضم محاوره تلقائيًا تحت لواءه، حيث أن العملية الفقهية غاية في التنظيم.
سابعًا: القراءة في تاريخ العصور والفتاوي، تجنبًا للوقوع في المغالطات التاريخية، فالمجتمع العلمي يقبل الزلة والتصحيح، بخلاف العوام الذين هم أقرب إلى اللغط وخلط المفاهيم.
ثامنًا: تجنب أن يكون الداعية جزءًا من العملية السياسية، فيبتعد بهذا عن الهدف الروحي الذي يسعى إليه.
وختامًا .. يقف الداعية موقفًا محوريًا ويمكن له أن يعود جزءًا من معادلة العملية الدينية في مصر فقط إن أحسنْ أدواته التي يمتلكها ويعمل على تطويرها في سبيل اتمام أمر الدعوة المستنير الذي يحافظ على الأصول ويواكب الجديد.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.