مفتي الجمهورية: قضية تنظيم النسل من المتغيرات وتدخل في عمق تجديد الخطاب الديني
أكد فضيلة الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم- أن قضية تنظيم النسل من المتغيرات وليست من الثوابت الشرعية وتدخل في عمق تجديد الخطاب الديني ولا تقاس بقدرات الأفراد منفردة غير منفصلة عن قدرة الدولة، ولا مانع من اتِّخاذ الدولة ما تراه من وسائل وتدابير لتنظيم عملية النسل وترغيب الناس فيه؛ فإنه ليس منعًا من الإنجاب مطلقًا، فالمحظور هو المنع المطلق، وهذا ليس منه.
جاء ذلك خلال الندوة التي نظمها “صالون جريدة الجمهورية الثقافي” تحت عنوان “الزيادة السكانية.. ومستقبل مصر”، بمقر الجريدة اليوم الثلاثاء؛ بمشاركة وحضور عدد من الوزراء ورؤساء تحرير الصحف القومية، ورئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، ورئيس الهيئة الوطنية للصحافة.
وأضاف مفتي الجمهورية أن الفتوى في قضية تنظيم النسل تختلف باختلاف أحوال الدول شريطة الوفاء بحق الطفل تنشئة وتربية ورعاية وحياة كريمة في كل حال، فإذا كانت الدولة تمتلك أرضًا شاسعة وثروات هائلة ، وفي قلة عددية من السكان هنا تكون الكثرة مطلوبة لعمارة الأرض والحفاظ على الثروات ، أما إذا كانت الدولة على العكس من ذلك فإن ذلك سيؤدي إلى كثرة كغثاء السيل ، فالحكم في هذه القضية ليس حكمًا ثابتًا بل هو من المتغيرات .
وأوضح مفتي الجمهورية أن ” القضية السكانية من القضايا المهمة لكونها تمس الأمن الفكري والأمن القومي وتتطلب علاجًا حاسمًا لتفادي الأزمات الاقتصادية المترتبة عليها، ولارتباطها ببعض الأفكار المغلوطة التي ترى أن تقنينها وحلها يتعارض مع المشيئة الإلهيِّة”.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتعارض مطلقًا مع مسألة تنظيم النسل وهي المباعدة بين الولادات المختلفة وتنظيمها وليس المنع أو القطع المطلق للنسل والذي يرفضه الشرع الشريف ولا يجيزه إلا لضرورة قصوى تتعلق بحياة الأم ، مؤكدا أن :” تنظيم النسل يعني المباعدة بين الولادات المختلفة لأسباب تدعو إلى ذلك، وقد تكون من هذه الأسباب أسباب تحسينية”.
وأشار مفتي الجمهورية ، إلى أن الرزق هو كالقضاء والقدر مقدر عند الله عز وجل؛ فالإنسان وغيره من المخلوقات رزقهم مكفول مسبقًا في علم الله ولكن علينا جميعًا الأخذ بالأسباب كما فعلت السيدة مريم عليها السلام عندما أمرها الله عز وجل بهز جذع النخلة؛ فالعمل أو الأخذ بالأسباب هو جزء من العبادة ولا يتعارض مع القضاء والقدر؛ فتحديد الله عز وجل للرزق ليس معناه عدم الأخذ بالأسباب أو عدم السعي.
وأوضح مفتي الجمهورية قائلا: “لا مانع شرعًا من تنظيم النسل أيًّا كان السبب سواء لحاجة أو لأمر ضروري أو تحسيني مثل ما يتعلق بصحة المرأة وجمالها؛ فهذا السبب لا يمنع ولا يتعارض أبدًا مع قضاء الله وقدره؛ فالرزق مكفول لكل إنسان، ولكن على الإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الرزق، وأن يبذل كل وجه متقن والذي يتوافق مع الحياة والواقع، ثم يتوكل بعد ذلك على الله عز وجل”.
ولفت مفتي الجمهورية إلى أن دار الإفتاء أصدرت العديد من الكتب والفتاوى التي تتعلق بهذه القضية ومنها كتاب: “فتاوى النوازل .. وباء كورونا”، و”القضايا المتعلقة بذوي الهمم من واقع فتاوى دار الإفتاء”، “قضايا فقه الدولة”، “وقضايا تشغل الأذهان”، وموسوعة دليل الأسرة في الإسلام بجزأيها، و”تنظيم النسل وتحديده في الإسلام”، وموسوعة “الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية”، و”أحكام المسنين”، و”فتاوى وأحكام المرأة في الإسلام”.
وعن احتجاج بعض المعترضين على تنظيم النسل بظاهر النصوص الواردة في الحث على كثرة التناسل والأولاد، أكد مفتي الجمهورية، على أنه لا يصح أن تؤخذ ألفاظ بعض النصوص الصحيحة على ظواهرها وبطريقة فردية دون مراعاة الأدلة الشرعيَّة الأخرى، التي لم يرد من بينها نص واحد يحدد -ولو تلميحًا- عدد الأولاد المطلوب إنجابهم لكل أسرة، وعلى العكس أيضًا لم نجد نصًّا يحرم تنظيم النسل أو الإقلال منه.
وأوضح مفتي الجمهورية، أن الإيمان بالقضاء والقدر مكون من مكونات الإيمان ويجب أن يكون معتبرًا عند الأخذ بالأسباب، والإيمان بالقضاء والقدر لا يتعارض مطلقًا مع مسألة تنظيم النسل، وهي المباعدة بين الولادات المختلفة وتنظيمها وليس المنع أو القطع المطلق للنسل الذي يرفضه الشرع الشريف ولا يجيزه إلا لضرورة قصوى تتعلق بحياة الأم.
وعن فهم البعض لتنظيم النسل بصورة معكوسة؛ حيث توهموا أنها تتعارض كليًّا مع قضية الرزق، باستشهادهم ببعض النصوص الشرعيَّة المحرِّمة لقتل الأولاد من أجل الفقر والعجز عن الاكتساب؛ كما في قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام:151]، قال مفتي الجمهورية، : “إنه فهم مغلوط؛ لأن الغرض من وسائل تنظيم النسل المتنوعة هو منع تكوين الجنين أصلًا؛ فالجنين لا يتكون إذا ما تم استخدام وسيلة تنظيم النسل، وكل ذلك من قدر الله تعالى”.
وأردف مفتي الجمهورية، قائلًا “إن أبلغ بيان يوضح وَهْمَ هؤلاء في الاحتجاج بهذه النصوص الشرعيَّة هو استعمال الصحابة رضي الله عنهم تنظيم النسل من خلال الوسائل المناسبة لزمانهم، وبإقرار النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته، تلك التي تُمَثِّل السنة العملية المحكمة والمأثورة التي تقرر حقائق دينية ثابتة من شأنها رسم إطار واضح لعملية الإنجاب والتكاثر البشري؛ فالعبرة في ذلك لا تكون بكثرة العدد ولا بجنس المولود، وأن مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بالأمة القوية التي يدها هي العليا لا التي يدها سفلى”.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن هناك اتساقًا بين جميع النصوص الشرعية التي تدعو لرخاء الإنسان وتحقيق استقراره، ولا تتعارض مع التوازن بين عدد السكان وتحقيق التنمية، حتى لا تؤدي كثرة السكان إلى الفقر، كما استنبط الإمام الشافعي ذلك من قوله عز وجل {فإن خفتم ألا تعدلوا}. مؤكدًا على أن تنظيم النسل بسبب الخوف من حصول المشقة والحرج بكثرة الأولاد والتكاليف ليس منهيًا عنه شرعًا؛ لأنه من باب النظر في العواقب والأخذ بالأسباب.
وأكد مفتي الجمهورية، أن تنظيم النسل جائز شرعًا، وأن التماس الزوجين لوسيلة من الوسائل المشروعة لتنظيم عملية الإنجاب بصورة تناسب ظروفهما لا ينطبق على التحذير من قتل الأولاد خشية الإملاق؛ لأنهم لم يتكونوا بعد.
وأوضح مفتي الجمهورية، أن دار الإفتاء المصرية استقرت في فتواها على أن تنظيم الأسرة من الأمور المشروعة والجائزة شرعًا، كما أنه يجوز شرعًا للزوجين البحث عن الوسائل الطبية لتمكينهم من الإنجاب إذا كانت هناك أسباب تمنعهم منه من الأصل، وهذه المنظومة التي نسير عليها هي رؤية متكاملة وشاملة ومتسقة مع منظومة التشريعات المصرية، كما أن الإسلام يدعو للغنى وليس إلى الفقر، ويدعو للارتقاء بالمجتمع والأسرة.
ونبَّه مفتي الجمهورية، على خطورة الاعتقاد بضرورة التكاثر من غير قوة، مشيرًا إلى أن ذلك داخل في الكثرة غير المطلوبة التي هي كغثاء السيل كما جاء في النصوص الشرعية؛ ولذا يجب فهمها في إطار متكامل وشامل ، مضيفا أن” الوضع المعاصر تغيَّر؛ لأن الدولة أصبحت مسئولة عن توفير العديد من المهام والخدمات، ولو تُرك الأمر هكذا لأصبحت الدول في حرج شديد؛ ولذا فتنظيم النسل الآن لا يتعارض مع روح الشريعة التي تؤيد تغيُّر الفتوى بتغير الزمان والمكان تحقيقًا لمقاصد الشريعة”.
وأما عن الإجهاض وعلاقته بتنظيم النسل، أكد مفتي الجمهورية على أن دار الإفتاء المصرية ترى أنه يَحرُمُ الإجهاضُ مطلقًا؛ بعد نفخ الروح في الجنين، إلَّا لضرورةٍ شرعية؛ بأن يقرر الطبيبُ المتخصص أن بقاء الجنين في بطن أمه فيه خطرٌ على حياتها، فحينئذٍ يجوز إسقاطه؛ مراعاةً لحياة الأم وصحتها المستقرة، وتغليبًا لها على حياة الجنين غير المستقرة.
وأشار مفتي الجمهورية، إلى أن بعض العلماء قديمًا لم ينظروا للعزل -الذي يشبه تنظيم النسل الآن- من منظور الفقر أو الحاجة، بل نظروا إليه من منظور تجميلي ورفاهية أو مراعاة لصحة الإنسان، فنجد مثلًا الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين يذهب إلى أن العزل بسبب الخوف من حصول المشقة والحرج بكثرة الأولاد والتكاليف ليس منهيًّا عنه شرعًا؛ لأنه من باب النظر في العواقب والأخذ بالأسباب.
وأضاف مفتي الجمهورية أن الإسلام لم يفرض عددًا معينًا من الأطفال ننجبهم .. ولم يدعُ إلى كثرة النسل دون ضوابط، مشيرا إلى أن الإسلام أوجب إحسان تربية الأبناء على كافة المستويات واعتبر الأولاد أمانة حذَّر من التفريط فيها.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ»، مشيرا إلى أن أن تنظيم النسل سلوك يهدف إلى حماية الأسرة وخلق جيل قوي يتمتع بصحة ورعاية جيدة ، يقول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) 🙁 الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ )، وأن أي مجتمع بقوة سواعد أبنائه ، ولا يتأتى ذلك بكثرة الإنجاب بأعداد كبيرة لا تقوى الأسر ولا المؤسسات على تلبية احتياجاتها ، فينشأ عن ذلك كوارث اجتماعية واقتصادية تهدد المجتمعات وتعوق تنميتها وتقدمها ، موضحا أن التنظيم والتخطيط في حياة الفرد والمجتمع أمر لا غنى عنه لأي مجتمع يريد النهوض بأفراده ، وكذلك الأمر في تنظيم الأسرة فإنه يعود بالفائدة والنفع على الأسرة والمجتمع معا .
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.