الانتحار ظاهرة أم عارض مجتمعي؟
ما بين الوصمة وقلة التقدير "مصر تخسر شبابها"
كتب: حامد بدر
يدخل إلى غرفته ليلًا ويتناول أقراصًا، أو يتجه نحو مكان شاهق الارتفاع فيلقي بنفسه، أو ينعزل فترة ليُكتشف أمره مشنوقًا، كلها هذه المشاهد غيرها تكرارًا لحالة تقود أشخاصًا اتخذوا قرارًا لا رجعة فيه نحو نهايات أقل ما توصف أنها مأساوية .. ” الانتحار”. لم نجد أحدًا يصف تلك المشاعر وماهيتها، ولا تلك الدقائق أو الساعات كيف تمر على من يقف هذا الموقف المتشائم الذي يقرر صاحبه، ربما بعد تفكير طال أو قَصر أن يترك عالمه للانتقال إلى العالم الآخر، ويضغط على زر الخلاص؛ ليضع كلمة (النهاية).. هكذا ينهي اللعبة بكل بساطة.
لكنَّ المشاهد سالفة الذكر لا تعدو كونها نمذجة لتمثيل عرض أكثر بشاعة من الواقع، فالمنتحر لا يفكر حينها سوى في الهروب مما يسبب له المشكلة، فلا يرى إلى أن ينهي ما يراه أزمة او ما هو بالفعل أزمة، أن ينهيه بهذا السلوك المرعب، مخلفًا وراءه حادثًا أليمًا، تتصيده وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. فتقول إحصائيات موثقة أن عدد المنتحرين فى العالم أكثر من ضحايا الحروب والقتل العمد، فالآلاف يرحلون في مشاهد تتنوع بين الضوضاء والبشاعة والهدوء القاتل.
تقتحم “المساء نيوز” هذا الملف المثير للجدل، والذي صارت تتردد أخباره على مسامع الناس في المجتمع المصري، الذي بات الآخر بكل أطيافه يعتادون تكرارها في ثورة من البعض وصمت من الآخرين، ولا سيما أقربها أمس بمحافظة الغربية، وقصة انتحار ابنة كفر الزيات “بسنت خالد”، إثر ابتزازها بصور مفبركة؛ ليبدأ 2022 بأولى الحوادث، كيما انتهى العام الماضي بانتحار “نور عاشور”، موظف “الكول سنتر” بإحدى الشركات، والذي اشتهرت قصته بانتحار موظف التجمع الخامس ..
تقول “أميرة .ن”: : هو ليه الأهل والأصدقاء والجيران بيعرف أن الشخص معاها حق غير لما يضيع حقها ليه ديمآ انتقادهم بتبقا اقوى من الوقوف مع الحق حقيقي حسبي الله ونعم الوكيل في كل اللي ظلمها”.
وفي إشارة للوم المحيطين ببسنت وعدو تفهُّم الموقف، قال”كامل.ح”: “كان لازم الأهل يقفوا معها، ويكون فيه تحرُّك قانوني أسرع، عشان يمسكوا الولد ده”، ويوافقه “عبد الرحمن.ك”: “اللوم على أهلها كان لازم يساندوها أكتر من كدا، حتي لو الصور حقيقية مش متفبركة. كان لازم الاهل تكون سند لبنتهم كان لازم يتعاملوا معاها انه الضحية مش الجاني”.
وتضيف “ساندي.أ”: ” اذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا .. واحنا شاطرين جدا في تصديق الخبر السيء هي لو وحشه مكنتش اتحصرت علي سمعتها وعلي أهلها وكان هيبقي عندها لا مبالا”. ويقول “كريم.ح”: “بنخسر شبابنا كل يوم امبارح نور وانهاردة بسنت، لازم يكون في إحساس بأي حد بيمر بظروف خارجة عن إرادته، وواجي على كل اللي حواليه يفهمو”.
وعن أسباب الوحدة وما تؤول بالشخص إلى الانتحار، يعارض (يوسف. م): “ماحدش يستاهل إني أموت علشانه، ماتهتمش بحد مش مُهتم بيك، وماتحكيش لحد حاجة وهو أصلًا مش فاضي يسمعك.. ماتذلش نفسك لحد”. في حين تقول “سميرة.أ”: “التكنولوجيا هي السبب الميديا بكل مستحدثاتها هي الوباء الحقيقي الذي أصاب العالم أجمع فقد أفسدت عقول الأطفال والشباب والنساء والرجال وكافة طوائف المجتمع”.
رسائلهم تتحدث
الذين يتركون الحياة طواعية غالبًا يتركون رسائل تحوي مشاعرهم أو أزماتهم، وكأنها تاريخًا لا يريدون الآخرين أن ينسوه، فيسطرون عبارات الوداع التي لا تخلٍّد لغيرهم سوى مشاعر الحزن، أو ربما تتحول هذه الرسائل إلى صرخة عذاب في أذن المحيطين بهم لاحقًا. فما يلفت النظر أكثر في موضوع الانتحار أسلوب الرسالة التي يحاول (الضحية) – ربما – أن يصوغ أفكارها والتي عادةً ما تكون قصيرة جدًا، فيكتبها بكل صدق – أو كما يُهيّأ له أنه قد كتبها بكل صدق – دقيقًا في ألفاظه أو غير دقيق حول آخر كلمات يكتبها في حياته، فرغم كونها مبهمة قد تصف بسهولة وقد تصل بنوع من البلاغة البسيطة جدًا التي لا عيب لغوي فيها وضوح ما قد أراد المنتحر قوله أو أراد التعبير انه غير مستعد لإكمال المسير.
لقد حاولت بسنت أن تبرر موقفها، وكأنها تعرضت للوم أو ضغط شديد: ” «ماما يا ريت تفهميني أنا مش البنت دي، وإن دي صور متركبة والله العظيم وقسماً بالله دي ما أنا، أنا يا ماما بنت صغيرة مستهلش اللي بيحصلّي ده أنا جالي اكتئاب بجد، أنا يا ماما مش قادرة أنا بتخنق، تعبت بجد. أنا متربية أحسن تربية
الاعتذار كلمة السر
يُلاحظ في عدد غير يسير من رسائل الانتحار، أنه بين عبارات اللوم والتبرير لقتل النفس تتخذ كلمة “آسف أو سامحوني” درجة ملفتة للنظر، فعبارة الاعتذار تلك يكتبها أغلب من أـراد فراق الحياة، وغير معلوم السبب، هل لانه يشعر بالذب، أم لعدم القدرة على الاستمرار؟ ثمت مشتركة بين رسائل من أنهى حياته عمدًا، فقد تكررت هذه اللفظة في غضون يناير 2019 الماضي حين أقدم شاب ذي السبعة عشر ربيعًا على قتل نفسه مستخدمًا غاز الهيلويوم، تاركًا رسالة “”سامحيني يا أمي، مقدرتش أستحمل إن أبويا مات، قلت لازم أروح له أسلم عليه، خلو بالكم من أمي”. كما أنه في عام 1986 بمدينة باريس، وقبل انتحارها كتبت الراحلة داليدا تقول: “الحياة لا تحتمل، سامحونى”
الانتحار بين الأسباب الطبية والنفسية
في العام 2019، خرجت منظمة الصحة العالمية بتقارير أقلقت الأطباء، بأن الانتحار لا يزال أحد الأسباب الرئيسة للوفاة في كل أنحاء العالم؛ بمعدل وفاة حالة واحدة من بين كل 100 حالة بالانتحار، مشيرة إلى أن أكثر من 700 ألف شخص توفوا انتحارًا في عام 2019، وأضافت المنظمة، في تقرير اليوم الثلاثاء عن الانتحار في جميع أنحاء العالم في عام 2019، أن عدد من يموتون بالانتحار أكثر ممن يموتون بفيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز” أو الملاريا أو سرطان الثدي أو الحرب والقتل.
وفي دراسة علمية حديثة أصدرتها مجلة frontiersin المتخصصة في الطب النفسي بعنوان “المقابلة التحفيزية للانتحار” The Study of Motivation in the Suicidal Process: The Motivational Interview for Suicidality أوضحت ضرورة دمج أساليب البحث والتقصي وراء إنهاء الشخص حياته بنفسه، والتي تتعدد وتتشابك دوافعها التي تعمل كمحور دفع نحو هذ السلوك الخطير المرعب، فالعوامل النفسية وحدها لاتكفي، لان ليس كل مريض نفسي يمكن ان القائمة على تحديد التشخيصات النفسية المرضية والمتغيرات الأخرى كمتنبئات محتملة للسلوك الانتحاري
واضاف الباحثون القائمون هذا البحث أنه لا بد من دراسة الدوافع المؤدية للانتحار، منذ سن المراهقة، مشيرين: “لها جذور وأسباب بعيدة المدى”، وليس لها مقدمات التي مكن التنبؤ بها لتحديد مستوى السحة العقلية لدى البشر.
وفي تصريحات صحفية قال الدكتور “خالد سعيد”، مستشار الصحة النفسية والإدمان بمنظمة الصحة العالمية، إن السلوك الانتحاري من عدة خطوات تشمل التفكير في الانتحار ثم التخطيط له ثم التنفيذ الذي قد يؤدى إلى الوفاة أو لا يؤدي، مشيرًا : “هناك 20 شخصًا حاولوا الانتحار مقابل كل شخص تمكَّن من الانتحار بالفعل”.
وعن الأسباب والدوافع المتعلقة بموضوع الانتحار، تابع “سعيد” يأتي السلوك الانتحاري نتيجة التفاعل بين العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية والثقافية. وتبقى الأسباب النفسية والإدمان على رأس الأسباب المؤدية إلى الانتحار، وهناك حالات بها تاريخ عائلي من الانتحار، وأصحاب الأمراض المزمنة لديهم قابلية للانتحار أكثر من غيرهم، إضافةً إلى مَن يتعرضون لأزمات نفسية واقتصادية.
وأشار مستشار الصحة النفسية والإدمان بمنظمة الصحة العالمية نحو أن حالات الصراع السياسي والاقتتال الداخلي قد تكون سببًا لهذا الحادث المفجع، موضحًا:” الأزمات السياسية يختلف تأثيرها وفق نوعيتها؛ وعندما تكون هناك صراعات داخلية وحروب أهلية تزيد حالات الانتحار، خاصةً عندما يرتبط ذلك بالإقصاء والهجرة القسرية والاضطرار إلى ترك الأوطان، ولنا في الصومال واليمن وسريلانكا درسًا بسبب الحرب الأهلية، ولا ننسى أن الانتحار زاد في الاتحاد السوفيتي بعد تفكيكه”.
وتأخذ العلوم النفسية والاجتماعية موضوع الانتحار على محمل الجد وتضع العديد من علامات الاستفهام حول أسبابه والعوامل التي تقف خلفه، وكذلك النتائج التي تترك آثارها على المجتمع من جدل حول شخصية المنتحر ذاته. فيقول مختصون أن المنتحر قد يشير ببعض العبارات أو رسائل يستغيث فيها بمن حوله أن يمنعوه عما لم يتخذ فيه قرار بنسبة مؤكدة؛ لأنهم قد يقررون للفعل بإحكام حتى يبدو مفاجئًا للآخرين، ويقول البعض الآخر أن المنتحر قد يتخذ القرار فجأة دون أن سابق إنذار، وهنا يكون المقدم على الفعل ربما على حل غير طبيعية أو غير متوازنة.
المنتحر ليس كافرًا
وعل عكس ما كنا دومًا نتوقعه من خلاف يقع بين الدين والعلم في هذه المسألة، جاء بيان دار الإفتاء المصرية مطلع ديمسبر 2019، في منشور ذاع صيته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بأن الانتحار له حكم آخر يخالف الكفر، بأنه كبيرة من الكبائر وجريمة تنتهك أهم وأقدس الحقوق وهو حق النفس، وكذا الشرع الذي نهى عن قتل النفس إلا بالحق، حاسمًا القول: “المنتحر ليس بكافر”.
وأشارت الإفتاء في منشورها نحو “عدم التقليل من ذنب هذا الجرم، وكذلك عدم إيجاد مبررات وخلق حالة من التعاطف مع هذا الأمر، وإنما التعامل معه على أنه مرض نفسي يمكن علاجه من خلال المتخصصين”.