آدم وحواءمقالات القراء

“إبْلِيسِيّة نيْرُوز” ..

حامد بدر

كانت الشمس قد أشرقت حين حاولت فتاة عشرينية أن تهم جسدها النحيل كي تعتدل على سرير المشفى، بمساعدة ممرضة لتطلب منها ورقة وقلم لتكتب شيئًا ما.
لم يكن هناك وقتٌ لمن هم في مثل حالتِها الحرجة؛ من أجل مناقشات أو إبداء نصائح، فالراحة لمثلها صار الموتُ حيلولة بينها وإيَّاها.
لم تمر لحظات حتى أتت الممرضة ومعها المطلوب: “ماذا تريدين أن أكتب آنسة نيروز؟”
– نيروز بصوت متهدج من أثر التعب: “دعيها .. لي .. شكرًا”.
انتظرت نيروز حتى خلا المكان، كادت أن نتبكي وكأنها تذكرت شيئًا ما، هي بالفعل ذكَّرت هذا الحبيب السابق، الذي حالت الأعراف الاجتماعية، والمستوى المادِّي البسيط للأخير أن يجتمعا، سويًا، ولكنها أخذت تتناسى ألم العلاج الكيماوي الذي ضاق به جسها، جتى أشفق منها التعب، وجمعت ما تبقى لديها من شتات قوة، وأمسكت بيدها المرتعشة القلم..
لم تكن في حالة تتطلب استدعاء الأفكار فهي في مثل هذه اللحظات تيأس من استدعاء كل شيء سوى الخواطر التي تنسابُ داخل عقلها، محلَّ الدموع التي نضُبت .. كتبت في آخر لحظاتها تذكر كل ما فات، نعم تذكر لم تكن تتذكر، كيف تنسى وكل ألحان الماضي لم تزل حاضرة .. كل اللحطات السعيدة تبقى.

كتبت نيروز لحبيبها السابق:
“مع شروق شمس جديدة اُسميتُ نيروز .. ذلك وافق ساعة مولدي
أمَّا ساعة مولد قلبي فوافقت يوم لقاؤنا الأول
كنُتُ أصلّي كثيرًا وأدعو .. وهي عادتي..
لكنها تحوَّلت إلى عبادة ونُسك يوم دعوتُ الله أن يتكرر اللقاء، فاستجاب.
كان منتهى الفتور ومبدأُ الشوق يوم لقاؤنا الأول..
لم يكن انا وأنت فقط اللذان نعلم .. كان الجميع يعلم
كنَّا نعلم وكأننا لم نكن نعلم..
كنا نعلم بأن الحياة تستحق أن نُشتَرى أكثر مما بعنا، وعلى جانب آخر كنا نعلم وكأننا لم نكن نعلم أننا ابتعنا أكثر مما ينبغي..
يا رفيقي كنَّا نترك الإحساس كنَّا نتجرع المرَّ متجاهلين فرصة الحياة الجميلة التي كانت تفتح ذراعاها تحتضننا.. تحضننا لتستوعب هذا العنفوان الذي كاد أن أن يحرق الشمس من جنونه.
كنا نعلم وكأننا لم نكن نعلم .. بأن سبعة أركان للعالم لا تكفي ذرَّة من شعاع حُبِّنَا الأبدِي، أعلمُ أنني قد تنازلت عنك في أوج اللحظات الواجب فيها التمسُّك ..
كنا نعلم وكأننا لم نكن نعلم بأن حقيقة الفراق أكبر وأضخم من أن نجيد لعب النهايات .. كانت أعظم من أسرق منك قلبي لأعطيه لغيرك..
غيرك الذي لم يكن يعلم ما كنا أنا وأنت نعلماه سويًا، فافترقنا، لكنني كما ذكرت لك .. كنا نعلم وكأننا لم نكن نعلم.
في تلك اللحظاتُ المُبلِسَةُ من رحمات العالم الأرضيّ .. أستطيعُ الآن أن أعلم والجميع الآن صار يعلم.
لكنني – الآن – لستُ حزينة، فقد رأيتُ الاعتذار في أعين كل من حولي، رأيتها في دموع أبي المتنعت جدًا، رأيتها في أعين أمي التي لم تكن تكترت لبقية قلبي الذي احترق على فراقك، رأيتها في أعين أخي القاسي – في الماضي – الذي اجتزأ من قسوة قلبه سنا أراه في مُقْلَتَيْهِ الحَجرِيَّتين، كلَّما حادثني ,,
صار الجميع يعلم .. صار الجميعُ يندم ”

كانت ورقة قد تهدَّرت حين سقطت عليها دموع رجل – جلس وحيدًا – قارب السبعين من العمر، حاول أن يُخبئها داخل قميصه ..
ثم قام ليسقط فجأة طريحًا .. اجتمع الناس على الموقف من كل حدْبٍ وصوْب، حاولوا إفاقته فلم يفلحوا .. بعدما فارقت روحه الجسد.
لم يكن معه ورقة يستدلون بها على شخصيته سوى تلك التي كانت داخل جَيْبِه مُهترئة رأسها “إبليسية نيروز”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: